الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
الجراح تتنوع نوعين أحدهما الشجاج, وهي ما كان في رأس أو وجه النوع الثاني: ما كان في سائر البدن وينقسم قسمين أحدهما قطع عضو والثاني: قطع لحم والمضمون في الآدمي ضربان أحدهما, ما ذكرنا والثاني: تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل.
قال -رحمه الله-: [ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وما فيه شيئان, ففي كل واحد منهما نصف الدية] وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله سبحانه وتعالى في الإنسان منه إلا واحدا كاللسان والأنف, والذكر والصلب ففيه دية كاملة لأن إتلافه إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كإتلاف النفس, وما فيه منه شيئان كاليدين والرجلين والعينين, والأذنين والمنخرين والشفتين, والخصيتين والثديين والأليتين, ففيهما الدية كاملة لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس وفي إحداهما نصف لأن في إتلافه إذهاب نصف منفعة الجنس وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن أبيه عن جده (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب له وكان في كتابه: وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية, وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية, وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية, وفي الرجل الواحدة نصف الدية) رواه النسائي وغيره ورواه ابن عبد البر, وقال: كتاب عمرو بن حزم معروف عند الفقهاء وما فيه متفق عليه عند العلماء إلا قليلا.
وما في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها الدية, وفي كل واحد منها ربع الدية وهو أجفان العينين وأهدابها وما فيه منه عشرة ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها, وهي أصابع اليدين وأصابع الرجلين وما فيه منه ثلاثة أشياء ففيها الدية وفي الواحد ثلثها وهو المنخران, والحاجز بينهما وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة لأن المنخرين شيئان من جنس, فكان فيهما الدية كالشفتين وليس في البدن شيء من جنس يزيد على الدية إلا الأسنان فإن في كل سن خمسا من الإبل, فتزيد على الدية وقد روي أنه ليس فيها إلا الدية قياسا على سائر ما في البدن والصحيح الأول لأن الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ورد بإيجاب خمس في كل سن فيجب العمل به, وإن خالف القياس.
قال: [وفي العينين الدية] أجمع أهل العلم على أن في العينين إذا أصيبتا خطأ الدية, وفي العين الواحدة نصفها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وفي العينين الدية) ولأنه ليس في الجسد منهما إلا شيئان ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها, كسائر الأعضاء التي كذلك وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وفي العين الواحدة خمسون من الإبل) رواه مالك في " موطئه " ولأن العينين من أعظم الجوارح نفعا وجمالا فكانت فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين إذا ثبت هذا, فلا فرق بين أن يكونا كبيرتين أو صغيرتين أو مليحتين أو قبيحتين أو صحيحتين أو مريضتين, أو حولاوين أو رمصتين فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم تنقص الدية وإن نقص البصر نقص من الدية بقدره وفي ذهاب البصر الدية لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما, وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر أحدهما نصف الدية كما لو أشل يدا واحدة, وليس في إذهابهما بنفعها أكثر من دية كاليدين.
وإن جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته, وإن لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة, فعليه ديته لأنه ذهب بسبب فعله وإن اختلفوا في ذهاب البصر رجع إلى اثنين عدلين مسلمين من أهل الخبرة لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر, ومعرفة بحالها بخلاف السمع وإن لم يوجد أهل الخبرة, أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشيء من عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه, وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب وإلا حكم له وإذا علم ذهاب بصره, وقال أهل الخبرة: لا يرجى عوده وجبت الدية وإن قالوا: يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى تنقضى المدة, فإن عاد البصر سقطت عن الجاني وإن لم يعد, استقرت الدية وإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن ادعى الجاني عود بصره قبل موته وأنكر وارثه, فالقول قول الوارث لأن الأصل معه وإن جاء أجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعد, وعلى الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عودها وإن قال الأول: عاد ضوءها وأنكر الثاني: فالقول قول المنكر لأن الأصل معه فإن صدق المجني عليه الأول, سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني وإن قال أهل الخبرة: يرجى عوده لكن لا نعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك إلى غير غاية يفضي إلى إسقاط موجب الجناية, والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط, وإن عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ منه لأنا تبينا أنه لم يكن واجبا.
وإن جنى عليه فنقص ضوء عينيه ففي ذلك حكومة وإن ادعى نقص ضوئهما, فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعرف ذلك إلا من جهته وإن ذكر أن إحداهما نقصت عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة, ونصب له شخص فيباعد عنه فكلما قال: رأيته فوصف لونه علم صدقه, حتى تنتهى فإذا انتهت علم موضعها ثم تشد الصحيحة, وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهى رؤيته, ثم يدار الشخص إلى جانب آخر فيصنع به مثل ذلك ثم يعلمه عند المسافتين, ويذرعان ويقابل بينهما فإن كانتا سواء, فقد صدق وينظر كم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما, وإن اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة رؤية المريضة ليكثر الواجب له, فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال ابن المنذر: أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي, رضي الله عنه أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر, حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه فعصبت الأخرى, وفتحت الصحيحة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو يبصر حتى انتهى بصره, ثم خط عند ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك, فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر قال القاضي: وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت, وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم إذا قالوا: إن الرجل إذا كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر إلى مائتي ذراع, احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلثا ديتها وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب, وكل ما لا ينضبط ففيه حكومة وإن جنى على عينيه فندرتا أو احولتا, أو عمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت والجناية على الصبي والمعتوه, كالجناية على البالغ والعاقل وإنما يفترقان في أن البالغ خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما, فإذا توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي, وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا.
وفي عين الأعور دية كاملة وبذلك قال الزهري ومالك, والليث وقتادة وإسحاق وقال مسروق, وعبد الله بن مغفل والنخعي والثوري, وأبو حنيفة والشافعي: فيها نصف الدية لقوله عليه السلام: (وفي العين خمسون من الإبل) وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وفي العينين الدية) يقتضي أن لا يجب فيهما أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد, أو اثنان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور, فلو وجبت عليه دية لوجب فيهما دية ونصف ولأن ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره, ضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله: وفي العين الواحدة نصف الدية ولم يفرق ولنا أن عمر, وعثمان وعليا وابن عمر, قضوا في عين الأعور بالدية ولم نعلم لهم في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن قلع عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله, فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين, فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصراء, ويجوز أن يكون قاضيا وشاهدا ويجزئ في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العوراء مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة, كذا في العينين فإن قيل: فلو صح هذا لم يجب في إذهاب بصر إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص قلنا: لا يلزم من وجوب شيء من دية العينين نقص دية الثاني بدليل ما لو جنى عليهما فاحولتا أو عمشتا, أو نقص ضوءهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك, ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية, كالذي ذكرنا.
وإن قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة للصحيحة خطأ فليس عليه إلا نصف الدية, ولا أعلم فيه مخالفا لأن ذلك هو الأصل وإن قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص عليه, وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى: عليه نصف الدية, ولا قصاص وقال المخالفون في المسألة: الأولى: له القصاص لقوله تعالى: وإن قلع الأعور عيني صحيح العينين فليس عليه إلا دية عمدا كان أو خطأ وذكر القاضي: أن قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما في العين التي استحق بها قلع عين الأعور, والأخرى في الأخرى لأنها عين أعور ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وفي العينين الدية) ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القالع صحيحا, ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور, على أن وجوب الدية بقلع إحدى العينين قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها ففيما عدا موضع الإجماع, يجب العمل بهما والبقاء عليهما فإن كان قلعهما عمدا, فاختار القصاص فليس له إلا قلع عينه لأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره, وهذا مبني على ما تقدم من قضاء الصحابة أن عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص من العين ونصف الدية للعين الأخرى وهو مقتضى الدليل والله أعلم. وإن قطع يد أقطع, أو رجل أقطع الرجل فله نصف الدية أو القصاص من مثلها لأنه عضو أمكن القصاص من مثله, فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع أذن من له أذن واحدة وعن أحمد رواية أخرى, أن الأولى إن كانت قطعت ظلما وأخذ ديتها أو قطعت قصاصا ففيها نصف ديتها, وإن قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين اللذين تحصل بهما منفعة الجنس, ولا يقوم مقام العضوين فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء, وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصا أو في غير سبيل الله ولا يصح القياس على عين الأعور لوجوه ثلاثة أحدها, أن عين الأعور حصل بها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا تفاوتا يسيرا بخلاف أقطع اليد والرجل والثاني أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب الأولى وها هنا اختلفا الثالث أن هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار إليه بمجرد الرأي, ولا توقيف فيه فيصار إليه ولا نظير له فيقاس عليه فالمصير إليه تحكم بغير دليل, فيجب اطراحه وإن قطعت أذن من قطعت أذنه أو منخر من قطعت منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية, رواية واحدة لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين. قال: [وفي الأشفار الأربعة الدية وفي كل واحد منها ربع الدية] يعني أجفان العينين, وهي أربعة ففي جميعها الدية لأن فيها منفعة الجنس وفي كل واحد منها ربع الدية لأن كل ذي عدد تجب في جميعه الدية, تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين والأصابع وبهذا قال الحسن والشعبي, وقتادة وأبو هاشم والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وعن مالك في جفن العين وحجاجها الاجتهاد لأنه لم يعلم تقديره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والتقدير لا يثبت قياسا ولنا أنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين, وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون كالغلق عليها, يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره, فوجبت فيها الدية كاليدين ولا نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا فإذا ثبت هذا, فإن في أحدها ربع الدية وحكي عن الشعبي أنه يجب في الأعلى ثلثا دية العين وفي الأسفل ثلثها لأنه أكثر نفعا ولنا, أن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كاليدين والأصابع, وما ذكره يبطل باليمنى مع اليسرى والأصابع وإن قلع العينين بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفردا فوجبت بإتلافهما جملة ديتان, كاليدين والرجلين وتجب الدية في أشفار عين الأعمى لأن ذهاب بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيها, كذهاب الشم لا يمنع وجوب الدية في الأنف. وتجب في أهداب العينين بمفردها الدية وهو الشعر الذي على الأجفان, وفي كل واحد منها ربعها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: فيه حكومة ولنا أن فيها جمالا ونفعا فإنها تقي العينين, وترد عنهما وتحسن العين وتجملها فوجبت فيها الدية كالأجفان, فإن قطع الأجفان بأهدابها لم يجب أكثر من دية لأن الشعر يزول تبعا لزوال الأجفان فلم تفرد بضمان, كالأصابع إذا قطع اليد وهي عليها. قال: [وفي الأذنين الدية] روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء ومجاهد, والحسن وقتادة والثوري, والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي, ومالك في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى: فيهما حكومة لأن الشرع لم يرد فيهما بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس ولنا, أن في كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم: (وفي الأذنين الدية) ولأن عمر وعليا قضيا فيهما بالدية فإن قيل: فقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قضى في الأذن بخمسة عشر بعيرا قلنا: لم يثبت ذلك قاله ابن المنذر ولأن ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية كاليدين, وفي إحداهما نصف الدية بغير خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما ولأن كل عضوين وجبت الدية فيهما, وجب في أحدهما نصفها كاليدين وإن قطع بعض إحداهما, وجب بقدر ما قطع من ديتها ففي نصفها نصف ديتها وفي ربعها ربعها, وعلى هذا الحساب سواء قطع من أعلى الأذن أو أسفلها أو اختلف في الجمال, أو لم يختلف كما أن الأسنان والأصابع تختلف في الجمال والمنفعة ودياتها سواء وقد روي عن أحمد, -رحمه الله- أن في شحمة الأذن ثلث الدية والمذهب الأول وتجب الدية في أذن الأصم لأن الصمم نقص في غير الأذن فلم يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا. فإن جنى على أذنه فاستحشفت واستحشافها كشلل سائر الأعضاء, ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: في ذلك ديتها لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله كاليد والرجل ولنا, أن نفعها باق بعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه, وهذا باق بعد شللها فإن قطعها قاطع بعد استحشافها ففيها ديتها لأنه قطع أذنا فيها جمالها ونفعها, فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمشاء أو حولاء. قال: [وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية] لا خلاف في هذا قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية روي ذلك عن عمر وبه قال مجاهد, وقتادة والثوري والأوزاعي, وأهل الشام وأهل العراق ومالك, والشافعي وابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافا لهم وقد روي عن معاذ, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وفي السمع الدية) وروى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه, فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع, فكان فيها الدية كالبصر وإن ذهب السمع من إحدى الأذنين وجب نصف الدية, كما لو ذهب البصر من إحدى العينين وإن قطع أذنه فذهب سمعه وجبت ديتان لأن السمع في غيرهما, فأشبه ما لو قلع أجفان عينيه فذهب بصره بخلاف العين إذا قلعت فذهب بصره فإن البصر في العين فأشبه البطش الذاهب بقطع اليد. وإن اختلفا في ذهاب سمعه, فإنه يتغفل ويصاح به وينظر اضطرابه ويتأمل عند صوت الرعد والأصوات المزعجة, فإن ظهر منه انزعاج أو التفات أو ما يدل على السمع, فالقول قول الجاني مع يمينه لأن ظهور الأمارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعى وحلف, لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقا وإن لم يوجد منه شيء من ذلك فالقول قوله, مع يمينه لأن الظاهر أنه غير سميع وحلف لجواز أن يكون احترز وتصبر وإن ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى, وتغفل على ما ذكرنا فإن ادعى نقصان السمع فيهما فلا طريق لنا إلى معرفة ذلك إلا من جهته فيحلفه الحاكم, ويوجب حكومة وإن ادعى نقصه في إحداهما سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة, وأقمنا من يحدثه وهو يتباعد إلى حيث يقول: إني لا أسمع فإذا قال إني لا أسمع غير عليه الصوت والكلام فإن بان أنه يسمع وإلا فقد كذب فإذا انتهى إلى آخر سماعه, قدر المسافة وسد الصحيحة وأطلقت المريضة, وحدثه وهو يتباعد حتى يقول: إني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام, فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وإن لم تتغير صفته, حلف وقبل قوله ومسحت المسافتان, ونظر ما نقصت العليلة فوجب بقدره فإن قال: إني أسمع العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره, فتجب فيه حكومة. فإن قال أهل الخبرة: إنه يرجى عود سمعه إلى مدة انتظر إليها وإن لم يكن لذلك غاية لم ينتظر ومتى عاد السمع, فإن كان قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعده, ردت على ما قلنا في البصر. قال: [وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية وفي شعر اللحية الدية إذا لم ينبت وفي الحاجبين الدية إذا لم تنبت] هذه الشعور الثلاثة في كل واحد منها دية وذكر أصحابنا معها شعرا رابعا وهو أهداب العينين, وقد ذكرناه قبل هذا ففي كل واحد منهما دية وهذا قول أبي حنيفة والثوري وممن أوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب وشريح والحسن وقتادة وروي عن علي وزيد بن ثابت أنهما قالا في الشعر: فيه الدية وقال مالك والشافعي: فيه حكومة واختاره ابن المنذر لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب فيه الدية كاليد الشلاء والعين القائمة ولنا, أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم, وما ذكروه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عن العين ويفرقه وهدب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها وينتقض ما ذكروه بالأصل الذي قسنا عليه, ويفارق اليد الشلاء فإنه ليس جمالها كاملا. وفي أحد الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية ففي أحدهما نصفها, كاليدين وفي بعض ذلك أو ذهاب شيء من الشعور المذكورة من الدية بقسطه من ديته, يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الأنف ولا فرق في هذه الشعور بين كونها كثيفة أو خفيفة, أو جميلة أو قبيحة أو كونها من صغير أو كبير لأن سائر ما فيه الدية من الأعضاء لا يفترق الحال فيه بذلك وإن أبقى من لحيته ما لا جمال فيه, أو من غيرها من الشعر ففيه وجهان أحدهما يؤخذ بالقسط لأنه محل يجب في بعضه بحصته, فأشبه الأذن ومارن الأنف والثاني: تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولأن جنايته ربما أحوجت إلى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل, فتكون جنايته سببا لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو ذهب بسراية الفعل, أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى ما ذهب بضوء عينه. ولا تجب الدية في شيء من هذه الشعور إلا بذهابه على وجه لا يرجى عوده مثل أن يقلب على رأسه ماء حارا فتلف منبت الشعر, فينقلع بالكلية بحيث لا يعود وإن رجى عوده إلى مدة انتظر إليها وإن عاد الشعر قبل أخذ الدية, لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في ذهاب السمع والبصر, فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى. ولا قصاص في شيء من هذه الشعور لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار, فلا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه. قال: [وفي المشام الدية] يعني الشم في إتلافه الدية لأنه حاسة, تختص بمنفعته فكان فيها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافا قال القاضي: في كتاب عمرو بن حزم, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وفي المشام الدية) فإن ادعى ذهاب شمه اغتفلناه بالروائح الطيبة أو المنتنة فإن هش للطيب, وتنكر للمنتن فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يبن منه ذلك فالقول قول المجني عليه, كقولهم في اختلافهم في السمع وإن ادعى المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته فقبل قوله فيه, كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالأقراء ويجب له من الدية ما تخرجه الحكومة وإن ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت, وإن كان بعد أخذها ردها لأنا تبينا أنه لم يكن ذهب وإن رجى عود شمه إلى مدة انتظر إليها وإن ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية, كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه. وفي الأنف الدية إذا كان قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر وابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية) وفي رواية مالك, في " الموطإ " (إذا أوعى جدعا) يعني إذا: استوعب واستؤصل ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة ليس في البدن منه إلا شيء واحد, فكانت فيه الدية كاللسان وإنما الدية في مارنه, وهو ما لان منه هكذا قال الخليل وغيره لأنه يروى عن طاوس أنه قال: كان في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية) ولأن الذي يقطع فيه ذلك, فانصرف الخبر إليه فإن قطع بعضه ففيه بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك منه, كما قلنا في الأذنين وقد روي هذا عن عمر بن عبد العزيز والشعبي والشافعي وإن قطع أحد المنخرين ففيه ثلث الدية وفي المنخرين ثلثاها, وفي الحاجز بينهما الثلث: قال أحمد: في الوترة الثلث وفي الخرمة في كل واحد منهما الثلث وبهذا قال إسحاق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت الدية على عددها, كسائر ما فيه عدد من جنس من اليدين والأصابع, والأجفان الأربعة وحكى أبو الخطاب وجها آخر أن في المنخرين الدية وفي الحاجز بينهما حكومة لقول أحمد: في كل زوجين من الإنسان الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث, فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين أذهب الجمال كله والمنفعة فأشبه قطع اليدين فعلى هذا الوجه, في قطع أحد المنخرين نصف الدية وإن قطع معه الحاجز ففيه حكومة, وإن قطع نصف الحاجز أو أقل أو أكثر لم يزد على حكومة وعلى الأول, في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث الدية, يقدر بالمساحة فإن شق الحاجز بين المنخرين ففيه حكومة, فإن بقي منفرجا فالحكومة فيه أكثر. وإن قطع المارن مع القصبة ففيه الدية, في قياس المذهب وهذا مذهب مالك ويحتمل أن تجب الدية في المارن وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد, كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه ولنا قوله عليه السلام: (وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية) ولأنه عضو واحد فلم يجب به أكثر من دية, كالذكر إذا قطع من أصله وما ذكروه يبطل بهذا ويفارق ما إذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل دية أحدهما في الآخر وأما العضو الواحد, فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وأصابع اليد يجب فيها ما يجب في اليد من الكوع, وكذلك أصابع الرجل وفي الثدي كله ما في حلمته فأما إن قطع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من الأنف, فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته. فإن ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة وإن قطعه قاطع بعد ذلك ففيه ديته, كما قلنا في الأذن وقول الشافعي ها هنا كقوله في الأذن على ما مضى شرحه وتبيانه وإن ضربه فعوجه أو غير لونه, ففيه حكومة في قولهم جميعا وفي قطعه بعد ذلك دية كاملة وإن قطعه إلا جلدة بقي معلقا بها فلم يلتحم واحتيج إلى قطعه, ففيه دية لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وباقيه بالتسبب, فأشبه ما لو سرى قطع بعضه إلى قطع جميعه وإن رده فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر: ليس فيه إلا حكومة, كالتي قبلها وقال القاضي: فيه دية وهذا مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته ديته كما لو لم يلتحم, ولأن ما أبين قد نجس فلزمه أن يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر منع نجاسته, ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات وجملته طاهرة, وكذلك أجزاؤه. وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم في غير الأنف, فلا تدخل دية أحدهما في الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العينين والنطق مع الشفتين وإن قطع أنف الأخشم, وجبت ديته لأن ذلك عيب في غير الأنف فأشبه ما ذكرنا.
|